فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

{قُلْ} يا محمد لأمتك {أوحي إليّ أنّهُ} أن الأمر والشأن.
أجمعوا على فتح {أنّهُ} لأنه فاعل {أوحى} و{أن لّوْ استقاموا} و{أن المساجد} للعطف على {أنّهُ استمع} ف (أن) مخفقة من الثقيلة و{أن قدْ أبْلغُواْ} لتعدي {يعْلمْ} إليها، وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو {فأنّ لهُ نار جهنّم} {وقالواْ إِنّا سمِعْنا} لأنه مبتدأ محكي بعد القول، واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من {أنّهُ تعالى جدُّ ربّنا} إلى {وأنّا مِنّا المسلمون} ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفا على {أنّهُ استمع} أو على محل الجار والمجرور في {آمنا بِهِ} تقديره: صدقناه وصدقنا {أنّهُ تعالى جدُّ ربّنا} {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا} إلى آخرها، وكسرها غيرهم عطفا على {إِنّا سمِعْنا} وهم يقفون على آخر الآيات {استمع نفرٌ} جماعة من الثلاثة إلى العشرة {مّن الجن} جن نصيبين {فقالواْ} لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر {إِنّا سمِعْنا قُرْءانا عجبا} عجيبا بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه.
والعجب ما يكون خارجا عن العادة، وهو مصدر وضع موضع العجيب {يهْدِى إِلى الرشد} يدعوا إلى الصواب أو إلى التوحيد والإيمان {فآمنا بِهِ} بالقرآن.
ولما كان الإيمان به إيمانا بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا: {ولن نُّشرِك بِربّنا أحدا} من خلقه، وجاز أن يكون الضمير في {بِهِ} لله تعالى لأن قوله: {بِربّنا} يفسره.
{وأنّهُ تعالى جدُّ ربّنا} عظمته.
يقال: جد فلان في عيني أي عظم، ومنه قول عمر أو أنس: كان الرجل إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا أي عظم في عيوننا {ما اتخذ صاحبة} زوجة {ولا ولدا} كما يقول كفار الجن والإنس {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا} جاهلنا أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه {على الله شططا} كفرا لبعده عن الصواب من شطت الدار أي بعدت، أو قولا يجوز فيه عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره {وأنّا ظننّا أن لّن تقول الإنس والجن على الله كذِبا} قولا كذبا، أو مكذوبا فيه، أو نصب على المصدر إذ الكذب نوع من القول أي كان في ظننا أن أحدا لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم؛ كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد كبير الجن فقال: {وأنّهُ كان رِجالٌ مّن الإنس يعُوذُون بِرِجالٍ مّن الجن فزادوهُمْ} أي زاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم {رهقا} طغيانا وسفها وكبرا بأن قالوا: سدنا الجن الإنس أو فزاد الجن الإنس رهقا إثما لاستعاذتهم بهم، وأصل الرهق غشيان المحظور {وأنّهُمْ} وأن الجن {ظنُّواْ كما ظننتُمْ} يا أهل مكة {أن لّن يبْعث الله أحدا} بعد الموت أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم، ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا.
{وأنّا لمسْنا السماء} طلبنا بلوغ السماء واستماع أهلها، واللمس.
المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف {فوجدناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا} جمعا أقوياء من الملائكة يحرسون: جمع حارس، ونصب على التمييز.
وقيل: الحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذا وصف بشديد ولو نظر إلى معناه لقيل شدادا {وشُهُبا} جمع شهاب أي كواكب مضيئة.
{وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها} من السماء قبل هذا {مقاعد لِلسّمْعِ} لاستماع أخبار السماء يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل المبعث {فمن يسْتمِعِ} يرد الاستماع {الآن} بعد المبعث {يجِدْ لهُ} لنفسه {شِهابا رّصدا} صفة ل {شِهابا} بمعنى الراصد أي يجد شهابا راصدا له ولأجله، أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع، والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات فمنعوا من الاستراق أصلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
{وأنّا لا ندْرِى أشرٌّ} عذاب {أُرِيد بِمن في الأرض} بعدم استراق السمع {أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا} خيرا ورحمة {وأنّا مِنّا الصالحون} الأبرار المتقون {ومِنّا} قوم {دُونِ ذلِك} فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا غير الصالحين {كُنّا طرائِق قِددا} بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة.
والقدد جمع قدة وهي القطعة من قددت السير أي قطعته {وأنّا ظننّا} أيقنا {أن لّن نُّعْجِز الله} لن نفوته {فِى الأرض} حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها {ولن نُّعْجِزهُ هربا} مصدر في موضع الحال أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء، وهذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم {وأنّا لمّا سمِعْنا الهدى} القرآن {ءامنّا بِهِ} بالقرآن أو بالله {فمن يُؤْمِن بِربِّهِ فلا يخافُ} فهو لا يخاف مبتدأ وخبر {بخْسا} نقصا من ثوابه {ولا رهقا} أي ولا ترهقه ذلة من قوله: {وترْهقُهُمْ ذِلّةٌ} [يونس: 27] وقوله: {ولا يرْهقُ وُجُوههُمْ قترٌ ولا ذِلّةٌ} [يونس: 26].
وفيه دليل على أن العمل ليس من الإيمان {وأنّا مِنّا المسلمون} المؤمنون {ومِنّا القاسطون} الكافرون الجائرون عن طريق الحق، قسط: جار وأقسط عدل {فمنْ أسْلم فأولئك تحرّوْاْ رشدا} طلبوا هدى والتحري طلب الأحرى أي الأولى {وأمّا القاسطون فكانُواْ} في علم الله {لِجهنّم حطبا} وقودا، وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار ويتوقف في كيفية ثوابهم {وأنْ} مخففة من الثقيلة يعني وأنه وهي من جملة الموحى أي أوحي إليّ أن الشأن {لوْ استقاموا} أي القاسطون {على الطريقة} طريقة الإسلام {لأسقيناهم مّاء غدقا} كثيرا، والمعنى لوسعنا عليهم الرزق، وذكر الماء الغدق لأنه سبب سعة الرزق.
{لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربّهِ} القرآن أو التوحيد أو العبادة {يسْلُكْهُ} بالياء: عراقي غير أبي بكر يدخله {عذابا صعدا} شاقا مصدر صعد يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح.
أي ما شق عليّ.
{وأنّ المساجد لِلّهِ} من جملة الموحى أي أوحي إليّ أن المساجد أي البيوت المبنية للصلاة فيها لله.
وقيل: معناه ولأن المساجد لله فلا تدعوا على أن اللام متعلقة ب {لاّ تدْعُواْ} أي {فلا تدْعُواْ مع الله أحدا} في المساجد لأنها خالصة لله ولعبادته.
وقيل: المساجد أعضاء السجود وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان {وأنّهُ لّما قام عبْدُ الله} محمد عليه السلام إلى الصلاة وتقديره وأوحي إليّ أنه لما قام عبد الله {يدْعُوهُ} يعبده ويقرأ القرآن ولم يقل نبي الله أو رسول الله لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لما كان واقعا في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو لأن عبادة عبد الله لله ليست بمستبعد حتى يكونوا عليه لبدا {كادُواْ} كاد الجن {يكُونُون عليْهِ لِبدا} جماعات جمع لبدة تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به وإعجابا بما تلاه من القرآن لأنهم رأوا ما لم يروا مثله {قُلْ إِنّما أدْعُواْ ربّى} وحده {قال} غير عاصم وحمزة {ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا} في العبادة فلم تتعجبون وتزدحمون علي؟ {قُلْ إِنّى لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا} مضرة {ولا رشدا} نفعا، أو أراد بالضر الغي بدليل قراءة أبي {غيّا ولا رشدا} يعني لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم لأن الضار والنافع هو الله.
{قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى مِن الله أحدٌ} لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته كقول صالح عليه السلام: {فمن ينصُرُنِى مِن الله إِنْ عصيْتُهُ} [هود: 63] {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} ملتجأ.
{إِلاّ بلاغا مِّن الله} استثناء من {لا أمْلِكُ} أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من الله و{قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى} اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه.
وقيل: {بلاغا} بدل من {مُلْتحدا} أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به يعني لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به فإن ذلك ينجيني.
وقال الفراء: هذا شرط وجزاء وليس باستثناء و(أن) منفصلة من (لا) وتقديره: أن لا أبلغ بلاغا أي إن لم أبلغ لم أجد من دونه ملتجأ ولا مجيرا لي كقولك إن لا قياما فقعودا، والبلاغ في هذه الوجوه بمعنى التبليغ {ورسالاته} عطف على {بلاغا} كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات أي إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسبا لقوله إليه، وأن أبلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان.
و(من) ليست بصلة للتبليغ لأنه يقال: بلّغ عنه، إنما هي بمنزلة (من) في {براءةٌ مّن الله} [التوبة: 1] أي بلاغا كائنا من الله.
{ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} في ترك القبول، لما أنزل على الرسول لأنه ذكر على أثر تبليغ الرسالة {فإِنّ لهُ نار جهنّم خالدين فِيها أبدا} وحد في قوله: {لهُ} وجمع في {خالدين} للفظ من ومعناه {حتى} يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه حتى {إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون} من العذاب {فسيعْلمُون} عند حلول العذاب بهم {منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا} أهم أم المؤمنون؟ أي الكافر لا ناصر له يومئذ والمؤمن ينصره الله وملائكته وأنبياؤه {قُلْ إِنْ أدْرِى} ما أدري {أقرِيبٌ مّا تُوعدُون} من العذاب {أمْ يجْعلُ لهُ ربّى} وبفتح الياء: حجازي وأبو عمرو {أمدا} غاية بعيدة يعني أنكم تعذبون قطعا ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجل {عالم الغيب} هو خبر مبتدأ أي هو عالم الغيب {فلا يُظْهِرُ} فلا يطلع {على غيْبِهِ أحدا} من خلقه {إِلاّ منِ ارتضى مِن رّسُولٍ} إلا رسولا قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له فإن يطلعه على غيبة ما شاء.
و{مِن رّسُولٍ} بيان ل {منِ ارتضى} والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول.
وذكر في التأويلات قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة وليس كذلك فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع النبات وذا لا يعرف بالتأمل فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق.
{فإِنّهُ يسْلُكُ} يدخل {مِن بيْنِ يديْهِ} يدي رسول {ومِنْ خلْفِهِ رصدا} حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي {لِيعْلم} الله {أن قدْ أبْلغُواْ} أي الرسل {رسالات ربِّهِمْ} كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم أي ليعلم الله ذلك موجودا حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد، وحد الضمير في {مِن بيْنِ يديْهِ} للفظ (من)، وجمع في {أبْلغُواْ} لمعناه {وأحاط} الله {بِما لديْهِمْ} بما عند الرسل من العلم {وأحصى كُلّ شيء عددا} من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ و{عددا} حال أي وعلم كل شيء معدودا محصورا أو مصدر في معنى إحصاء، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الجن:
{قُلْ أوحي إليّ أنّهُ استمع نفرٌ مِّن الجن}
تقدمت في [الأحقاف: 29] قصة هؤلاء الجن الذين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا {فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا} أي قال بعضهم لعض، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة لأن العجب مصدر قولك: عجبت عجبا. وقيل: هو على حذف مضاف تقديره ذا عجب.
{وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا} {جدُّ الله}: جلاله وعظمته، وقيل: معناه من قولك: فلان مجدود إذا استغنى، وقرئ {أنه} في هذا الموضع بفتح الهمزة، وقرأ نافع بكسرها، وكذلك فيما بعده إلى قوله: {وأنا منا المسلمون}. فأما الكسر فاستئناف أو عطف على {إنا سمعنا}، لكنه كسر في معمول القول، فيكون عطف عليه من قول الجن، وأما الفتح فقيل: إنه عطف على قوله: {إنه استمع نفر} وهذا خطأ من طريق المعنى؛ لأن قوله: {استمع نفر} في موضع معمول أُوحي، فيلزم أن يكون المعطوف عليه مما أوحى وأن لا يكون من كلام الجن. وقيل: إنه معطوف على الضمير المجرور في قوله: {آمنا به} وهذا ضعيف، لأن الضمير المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض.
وقال الزمخشري: هو معطوف على محل الجار والمجرور في {آمنا به}، كأنه قال: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وكذلك ما بعده، ولا خلاف في فتح ثلاث مواضع هي: {أنه استمع}، {وأن لو استقاموا}، {وأن المساجد لله}؛ لأن ذلك مما أوحي لا من كلام الجن {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على الله شططا} هذا من كلام الجن، وسفيههم أبوهم إبليس، وقيل: هو اسم جنس لكل سفيه منهم، واختبار ذلك ابن عطية، والشطط: التعدي ومجاوزة الحد.
{وأنّا ظننّآ أن لّن تقول الإنس والجن على الله كذِبا} أي ظننا أن الأقوال التي كان الإنس والجن يقولونها على الله صادقة وليست بكذب؛ لأنا ظننا أنه لا يكذب أحد على الله.
{وأنّهُ كان رِجالٌ مِّن الإنس يعُوذُون بِرِجالٍ مِّن الجن} تفسير هذا ما روي أن العرب كانوا إذا حل أحد منهم بواد صاح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، ويعتقد أن ذلك الجن الذي بالوادي يحميه {فزادُوهُمْ رهقا} ضمير الفاعل للجن، وضمير المفعول للإنس، والمعنى: أن الجن زادوا الإنس ضلالا وإثما لما عاذوا بهم، أو زادوهم تخويفا لما رأوا ضعف عقولهم، وقيل: ضمير الفاعل للإنس، وضمير المفعول للجن: والمعنى إن الإنس زادوا الجن تكبرا وطغيانا لما عاذوا بهم، حتى كان الجن يقول: أنا سيد الجن والإنس.
{وأنّهُمْ ظنُّواْ كما ظننتُمْ أن لّن يبْعث الله أحدا} الضمير في ظنوا لِكفار الإنس، وظننتم خطاب الجن بعضهم لبعض، فالمعنى أن كفار الإنس والجن ظنوا أن لن يبعث الله أحدا، والبعث هنا يحتمل أن يريد به بعث الرسل أو البعث من القبور.
{وأنّا لمسْنا السماء فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا} هذه إخبار عن ما حدث عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من منع الجن من استراق السمع من السماء ورجمهم، واللمس المس، واستعير هنا للطلب، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام، ولذلك وُصِف بشديد وهو مفرد، ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس، النجوم الحارسة، وكرر الشهب لاختلاف اللفظ.
{وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ} المقاعد جمع مقعد، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها، ثم يزيد الكهان للكلمة مائة كذبة، {فمن يسْتمِعِ الآن يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} الرصد اسم جمع للراصد، كالحراس للحارس وقال ابن عطية: هو مصدر وصف به ومعناه منتظر، قال بعضهم: إن رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، واختار ابن عطية والزمخشري أنه كان قبل المبعث قليلا، ثم زاد بعد المبعث وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية، والدليل أنه كان قبل المبعث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد رأى كوكبا انقض:«ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟» قالوا: كنا نقول ولد ملك أو مات ملك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الأمر كذلك»، ثم وصف استراق الجن للسمع، وقد ذكر شعراء الجاهلية ذلك في أشعارهم.
{وأنّا لا ندري أشرٌّ أُرِيد بِمن فِي الأرض} الآية: قال ابن عطية: معناه لا ندري أيومن الناس بهذا النبي صلى فيرشدوا، أو يكفرون به فينزل بهم الشر؟ وقال الزمخشري: معناه لا ندري هل أراد الله بأهل الأرض خيرا أو شرا من عذاب أو رحمة من خذلان أو من توفيق؟ {وأنّا مِنّا الصالحون ومِنّا دُون ذلِك} أي منا قوم دون ذلك فحذف الموصوف وأراد به الذين ليس صلاحهم كاملا، أو الذين ليس لهم صلاح، فإن دون تكون بمعنى أقل أو بمعنى غير {كُنّا طرآئِق قِددا} الطرائق: المذاهب والسير وشبهها، والقدد المختلفة وهو جمع قدة. وهذا بيان للقسمة المذكورة قبل، وهو على حذف مضاف إي كنا ذوي طرائق {وأنّا ظننّآ أن لّن نُّعْجِز الله فِي الأرض} الظن هنا بمعنى العلم، وقال ابن عطية: هذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا هذا الاعتقاد قبل إسلامهم {سمِعْنا الهدى} يعنون القرآن {فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا} البخص النقص والظلم، والرهق تحمل ما لا يطاق، وقال ابن عباس: البخص نقص الحسنات، والرهق الزيادة في السيئات.
{ومِنّا القاسطون} يعني الضالمين، يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط بالألف إذا عدل.
هاهنا انتهى ما حكاه الله من كلام الجن، وأما قوله: {فمنْ أسْلم فأولئك تحرّوْاْ رشدا} يحتمل أن يكون من بقية كلامهم. أو يكون ابتداء كلام الله تعالى وهو الذي اختاره ابن عطية، وأما قوله: {وألّوِ استقاموا} فهو من كلام الله باتفاق وليس من كلامهم.
{تحرّوْاْ} أي قصدوا الرشد {وألّوِ استقاموا على الطريقة لأسْقيْناهُم مّاء غدقا} الماء الغدق الكثير وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي طريقة الإسلام وطاعة الله، فالمعنى لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله: {ولوْ أنّ أهْل القرى آمنُواْ واتقوا لفتحْنا عليْهِمْ بركاتٍ مِّن السماء والأرض} [الأعراف: 96] وقيلأ: هي طريقة الكفر، والمعنى على هذا: لو استقاموا على الكفر لوسع الله عليهم في الدنيا أملاكهم استدراجا، ويؤيد هذا قوله: {لِّنفْتِنهُمْ فِيهِ} والأول أظهر، والضمير في {استقاموا} يحتمل أن يكون للمسلمين أو القاسطين المذكورين، أو لجميع الجن أو للجن الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم أو لجميع الخلق {لِّنفْتِنهُمْ فِيهِ} إن كانت الطريقة الإيمان والطاعة، فمعنى الفتنة الاختبار هل يسلمون أم لا؟ وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة الإضلال والاستدراج {يسْلُكْهُ عذابا صعدا} معنى نسلكه ندخله والصعد الشديد المشقة، وهو مصدر صعد يصعد، ووصف بالمصدر للمبالغة يقال: فلان في صعد أي في مشقة. وقيل: صعدا جبل في النار.
{وأنّ المساجد لِلّهِ} أراد المساجد على الاطلاق وهي بيوت عبادة الله، وروي أن الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة، وقيل: أراد الأعضاء التي يسجد عليها، واحدها مسْجد بفتح الجيم وهذا بعيد، وعطف أن المساجد لله على أوحي إليّ أنه استمع، وقال الخليل: معنى الآية: لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا، أي لهذا السبب فلا تعبدوا غير الله.
{وأنّهُ لمّا قام عبْدُ الله يدْعُوهُ} عبد الله هنا محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بالعبودية اختصاصا له وتقريبا وتشريفا، وقال الزمخشري: أنه سماه هنا عبد الله ولم يقل الرسول أو النبي؛ لأن هذا واقع في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، لأنه مما أوحي إليّه فذكر صلى الله عليه وسلم نفسه على ما يقتضيه التواضع والتذلل، وهذا الذي قاله بعيد مع أنه إنما يمكن على قراءة {أنه لما قام} بفتح الهمزة فيكون عطفا على {أوحي إليّ أنه استمع}، وأما على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله، أو من جملة كلام الجن فيبطل ما قاله {كادُواْ يكُونُون عليْهِ لِبدا} اللبد الجماعات واحدها لبدة، والضمير في كادوا يحتمل أن يكون للكفار من الناس، أي كادوا يجتمعون على الردّ عليه وإبطال أمره، أو يكون للجن الذين استمعوا، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماع القرآن، والبركة به.
{مُلْتحدا} أي ملجأ {إِلاّ بلاغا} بدل من ملتحدا أي لا أحد ملجأ إلا بلاغ الرسالة، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا {مِّن الله} قال الزمخشري: هذا الجار والمجرور ليس بصلة البلاغ إنما هو بمعنى بلاغا كائنا من الله، ويحتمل عندي أن يكون متعلقا بـ: {بلاغا} والمعنى بلاغ من الله {ورِسالاتِهِ} قال الزمخشري: إنه معطوف على {بلاغا} كأنه قال: إلا التبليغ والرسالة، ويحتمل أن يكون {ورسالاته} معطوفا على اسم الله.
{ومن يعْصِ الله ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم خالِدِين فِيهآ أبدا} جمع خالدين على معنى من يعص لأنه في معنى الجمع، والآية في الكفار، وحملها المعتزلة على عصاة المؤمنين لأن مذهبهم خلودهم في النار. والدليل على أنها في الكفار وجهان: أحدهما أنها مكية والسورة المكية إنما الكلام فيها مع الكفار. والآخر دلالة ما قبلها وما بعدها على أن المراد بها الكفار {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون} تعلقت حتى بقوله: {يكونون عليه لبدا} وجعلت غاية لذلك. والمعنى: أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون، قال ذلك الزمخشري، وقال أيضا: يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل على المعنى، كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه من الكفر حتى إذا رأوا ما يوعدون، وهذا أظهر.
{قُلْ إِنْ أدري أقرِيبٌ مّا تُوعدُون} {إن} هنا نافية. والمعنى قل: لا أدري أقريب ما توعدون أم بعيد وعبر عن بُعده بقوله: {أم يجعل له ربي أمدا} ويعني بـ: {ما توعدون} قتلهم يوم بدر، أو يوم القيامة. {فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا إِلاّ منِ} أي لا يطلع أحدا على علم الغيب {إِلاّ منِ ارتضى}، وهم الرسل فإنه يطلعهم على ما شاء من ذلك. ومن في قوله: {مِن رّسُولٍ} لبيان الجنس لا للتبعيض، والرسل هنا يحتمل أن يراد بها الرسل من الملائكة، وعلى هذا حملها ابن عطية، أو الرسل من بني آدم، وعلى هذا حملها الزمخشري. واستدل بها على نفي كرامات الأولياء الذين يدعون المكاشفات، فإن الله خص الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. وفيها أيضا دليل على إبطال الكهانة والتنجيم وسائر الوجوه التي يدعي أهلها الاطلاع على الغيب؛ لأنهم ليسوا من الرسل {فإِنّهُ يسْلُكُ مِن بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصدا} المعنى أن الله يسلك من بين يدي الرسل ومن خلفه ملائكة يكونون رصدا يحفظونه من الشياطين، وقد ذكرنا رصدا في هذه السورة، قال بعضهم: ما بعث الله رسولا إلا ومعه ملائكة يحرسونه حتى يبلغ رسالة ربه {لِّيعْلم أن قدْ أبْلغُواْ رِسالاتِ ربِّهِمْ} في الفاعل بيعلم ثلاثة أقوال: الأولى أي ليعلم الله أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، أي يعلمه موجودا وقد كان علم ذلك قبل كونه. الثاني ليعلم محمد أن الملائكة الرصد أبلغوا رسالات ربهم. الثالث ليعلم من كفر أن الرسل قد بلغوا الرسالة. والأول أظهر، وجمع الضمير في {أبلغوا} وفي {ربهم} حملا على المعنى، لأن {من ارتضى من رسول} يراد به جماعة {وأحاط بِما لديْهِمْ} أي أحاط الله بما عند الرسل من العلوم والشرائع، وهذه الجملة معطوفة على قوله: {ليعلم}، لأن معناه أنه قد علم، قال ذلك ابن عطية، ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال {وأحصى كُلّ شيْءٍ عددا} هذا عموم في جميع الأشياء، وعددا منصوب على الحال أو تمييز أو مصدر من معنى أحصى. اهـ.